بمناسبة تنظيم معرض خاص حول الدولة الفاطمية في قصر المعارض مفدي زكريا بالجزائر العاصمة من تاريخ 17 ديسمبر إلى 31 يناير 2008 م تحت عنوان "كتامة والدولة الفاطمية" رأيت أنّه من المناسب أن أبيّن جزءا من تاريخ هذه الدولة الباطنية الرافضية الشيعية التي كان قيامها في أرضنا الطاهرة من أسوأ الأحداث في تاريخنا الإسلامي، فلم يحدّثنا التاريخ إلا عن مآس ومجازر ارتكبها هؤلاء الشيعة الروافض في حق الأبرياء من أهل السنة، وكان حرّيا بمن يدّعي أنّه مالكي أن يكون أول الناقمين على تنظيم مثل هذه المعارض التي تحاول أن تضفي صورة ناصعة البياض على الدولة الفاطمية..
وقبل الحديث عن جرائم الدولة العبيدية لا بأس أن نقف قليلا عند مواقف علمائنا المغاربة من المذاهب العقائدية الكلامية التي انتشرت في المنطقة لا سيما مذهب المعتزلة (1) حيث وصلت فتنة القول بخلق القرآن إلى المنطقة فحاربها العلمـاء محاربـة شديدة، ووقفوا ضـد القائلين بها موقفا صارما، فمثلا امتنعوا عن الصلاة على من عرف بالاعتزال، وكان علماء المغرب مجمعين على ذلك (2)، وكان الصراع بين أهل السنة وأهل البدع والأهواء سجالا في أيام الدولة الأغلبية، فقد شرّد أهل الأهواء من المسجد الجامع في القيروان، وكانت فيه حلق للإباضية والصفرية، والذي تولّى تشريدهم القاضي سحنون (3)، وعندما ولي القضاء الحنفي ابن عبدون لإبراهيم بن الأغلب عمل على اضطهاد المالكية (4) وممّن امتحن على يديه أحمـد بن متعب الذي ضرب ضربا شديدا (5)، وأمّا إبراهيم بن الدمنى وأبو القاسم مولى مهرية وأحمد بن عبدون العطار فكان مصيرهم القتل (6)، وكان حمديس القطان من كبار علماء المالكية لا يصلّي وراء ابن عبدون، فقد حضر معه فأوتي بجنازة فصلّى عليها وصلّى وراءه ابن عبدون، ثمّ أوتي بأخرى فصلّى عليها القاضي ابن عبدون فلم يصلّ وراءه حمديس، وعندما عزل ابن عبدون اجتمع الناس للشهادة عليه إلا حمديس القطان وكان من أشدّ الناس بغضا له، فقال له الناس: "ما منعك من الشهادة عليه"، فقال: "إنّما كنتم تطلبون عزله وقد عزل" (7)..
ومن شدّة تسلط ابن عبدون على المالكية فإنّ إبراهيم بن الأغلب عندما عرض القضاء على عيسى بن مسكين بن منصور رأى منه ترددا فقال له: "إن لم تل لأولينّ ابن عبدون يظهر البدعة ويهين السنة" (8).
وبقيـام الدولة الفاطمية الرافضية سنة 297 هـ يتغيّـر الصراع ويعنف كما لم يعنف من قبـل ، وتشتدّ المحنة على أهل إفريقية والمغرب المالكية، فالعنصر الذي جدّ في مناهضتهم كان قويا، فبني عبيد إلى جانب كرههم لأهل السنة كانوا حاكمين وعملوا على نشر مذهبهم، لذلك كان على بلاد المغرب أن تواجه هذه الدعوة التي سوف لا تترك وسيلة للنفاذ إلا استنفذتها، وعلى أهلها إذا أرادوا التمسك بمالكيتهم أن يلاقوا التنكيل والترويع والقتل (9).
وحاول أبو عبد الله الشيعي (10) مؤسس الدولة العبيدية في أول أمره أن يقنع العلماء بمذهبه ويناظرهم عليه، وفي هذا الإطار فقد تناظر الشيعي مع أبي عثمان سعيد بن محمد بن صبيح الغساني فقال له: "القـرآن يقرّ بأنّ محمـدا ليس بخـاتم النبيين"، فقال لـه سعيد : "أين ذلك؟"، فقال له: "في قولـه تعالى:
{وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (11) فخاتم النبيّين غير رسول الله"، فقال سعيد: "هذه الواو ليست من واوات الابتداء إنّما هي من واوات العطف، كقوله تعالى:
{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (12) فهل من أحد غير الله يوصف بهذه الصفات!!"، وتكلّم عنده يوما ، فغضب من كلامه رجل من كتامة يعرف بأبي موسى شيخ المشايخ، وقـام إليه بالرمح، فمنعه أبو عبد الله من ذلك، ثمّ عطف إلى أبي عثمان فقال له: "يا شيخ لا تغضب، إذا غضب هذا الشيخ غضب لغضبه اثنا عشر ألف سيف" (13)..
واشتهر سعيد بن محمد بمناظراته وثباته على الحق، لذلك عـلا شأنه بين الناس، أمّا صاحبه أبو بكر بن القمودي الذي كان عـارفا بأصـول المناظرات فلم يدخل في قلوب القوم، ولم تكن له المهابة والإجلال التي كانت لأبي عثمان، وسبب ذلك أنّه تناظر مع أبي العباس الداعي مناظرة أفحمه فيها، فجعل أبو عبد الله الشيعي يحرّك له أصبعه و يقول لـه: "إنّك لتظهر لأهل البيت ما أرى منك من البغضاء، وتنصب في توهين أمرك ما أسمع من حجاجك"، فاضطر الرجل إلى الاعتذار، وخاف سفك الدم (14).
ولمّا خرج أبو عبد الله الشيعي في طلب عبيد الله استخلف أخاه أبا العباس، فأطلق يد محمد بن عمر المرودي فتصلّب وتكبّر، وكانت أيامه صعبة جدّا، وأخاف أهل السنة وترك أكثرهم الصلاة في المساجد، وأخذ أموال الأحباس والحصون، وأخذ سلاح الحصون التي على البحر، وأمر الفقهاء أن لا يفتوا ولا يكتبوا وثيقة إلا من تشرّق (15) وأن يزال من الحصون والمساجد اسم الذي بناها وأمر بها من السلاطين ويكتب اسم المهدي (16).
وقد كان العلماء من أوائل ضحايا الانتصار الشيعي الرافضي في إفريقية وبلاد المغرب، فقد قتل أبو العباس الشيعي شقيق أبي عبد الله عالمين فاضلين هما ابن البردون وابن هذيل، وطيف بهما مربوطين إلى بغل مسحوبين على وجههما في القيروان ثمّ صلبا (17).
ولمّا دخل عبيد الله (18) القيروان ادّعى أنّه المهدي المنتظر، وأنّه الإمام المعصوم وجـاهر بسب أصحـاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأزواجـه الطاهرات، وحكم بكفرهم وارتدادهم عن الإسلام، ولم يستثن إلا عليّا وقليلا ممن أيده وناصره (19) ونصّب حسينا السبّاب ـ لعنه الله تعالى ـ في الأسواق للسبّ بأسجاع لقّنها يوصل منها إلى سبّ النبي صلى الله عليه و سلم، كقوله: "العنوا الغـار وما وعى، والكساء وما حوى" وغير ذلك، وعلّقت رؤوس الأكباش والحمر على الحوانيت عليها قراطيس معلقة فيها أسماء الصحابـة رضي الله عنهم (20)..
وقطع صـلاة التراويح، وأبطل الآذان السني وأبدلـه بالآذان الشيعي، وانتهكت حرمات المساجد في أيامه، فقد روي أن بعض أتباعه أدخلوا خيولهم المسجد، ولمّا قيل لهم: "كيف تدخلون خيولكم المسجد؟"، قالوا: "إنّ أرواثها وأبوالها طاهرة لأنّها خيل المهدي"، فقال لهم القيّم على المسجد: "إنّ الذي يخرج من المهدي نجس، فكيف بالذي يخـرج من خيله"، فقالوا لـه: "طعنت على المهـدي"، وأخذوه ثمّ قتلوه (21).
وهذا ما دفع علماء القيروان إلى إعلان معارضتهم الصريحة للعبيديين، وكان أبو يوسف جبلة بن حمود بن عبد الرحمن على رأس المعارضين، حيث ترك رباطه وأتى القيروان ليسكنها، فسأل عن سبب ذلك، فقال: "كنّا نحرس عدوا بينه وبيننا البحر فتركناه وأقبلنا على حراسة هذا الذي حلّ بساحتنا لأنّه أشدّ علينا من الـروم، ولم يكن في وقته أكثر منه اجتهـادا منه في مجـاهدة عبيد الله وشيعته، وكان لا يداري أحدا في ذلك" (22)، وعندما حضر أول خطبة لهم في جامع القيروان جلس عند المنبر فسمع خطبتهم، فلمّا سمع ما لا يجوز سماعه قـام وكشف عن رأسه حتى رآه الناس ومشى من المنـبر إلى آخر بـاب في الجامع والنـاس ينظرون إليه وهو يقول: "قطعوها قطعهم الله"، فمن حينئذ ترك العلمـاء حضـور جمعهم، وهو أول من نبّه على ذلك (23).
وإذا كان أبو يوسف قد سلّمه الله من الأذى، فإنّ أبا محمد بن العباس بن الوليد المعروف بالهذلي قد ضُرب عريانا حتى سال الدم من رأسه، ثمّ أركب على حمار عريانا وطيف به في أسواق القيروان، ثمّ حبس وتـرك بعد ذلك، وحدث لـه هذا بعد وشـاية مفادها أنّه يفتي بمذهب المالكية ويطعن على المهدي (24)، وسجن حكم بن محمد بن هشام القرّشي لصلابته في السنة وإنكاره على أهل البدع، ثمّ هجر إفريقية واستقرّ في الأندلس (25) وكذلك فعل حباشة بن حسن اليحصبي الذي كان يحدّث في الأندلس أنّ السنة تعرض سرّا في القيروان (26).
ولقي عروس المؤذن حتفه مقتـولا بالرماح بأمـر من عبيد الله الشيعي سنة 307 هـ بعد أن قطع لسانه، وطيف به في القيروان، وذنبه أنّـه لم يقل في آذانـه حي على خير العمل (27).
وأمّا أبو عبد الله محمد بن عبد الله السدري المجاهر بعداوة الشيعة المبايع على جهادهم فقد أرسل عبيد الله الشيعي من يأتيه به إليه، ولمّا أوقف بين يديه قال له عبيد الله: "أنت الشاتم لنا الذاكر عنّا أنا أحدثنا في الإسلام الحوادث"، فقال له: "نعم أنا القائل بذلك"، فقال له: "وما الذي رأيته منّا؟"، فأخبره بكلّ ما يعتقده في الدين والإسلام، وكلّ ما أحدث فيهما، فقال حينئذ عبيد الله لأوليائه: "اضربوا عنقه"، فقتل رحمه الله سنة 309 هـ (28).
وأمّا من لم يستطع المقاومة من العلماء فاختار الفرار بدينه، ومن هؤلاء أبو محمد يونس بن محمد الورداني الذي فضّل رعي البقر في البـوادي بعيدا عن أعين الشيعة، وذلك حين طلبـوا أهـل العلـم والفضل، فخاف على نفسه، وكان هذا سببا لأن يكون مخمول الذكر عند علماء القيروان (29).
وأنكر أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي الأسدي وكان من أئمة المالكية بالمغرب على معاصريه من أهل القيروان سكناهم في مملكة بني عبيد وبقاءهم بين أظهرهم، وأنّه كتب إليهم مرّة بذلك، فأجابوه بأنّ بقاءهم مع من هناك من عامة المسلمين تثبيت لهم على الإسلام وبقية صالحة للإيمان، وأنّهم لو خرجوا من إفريقية لتشيّع من بقي فيها من العامة، فرجّحوا خير الشرّين (30).
وحامت حول بعض العلماء شبهة التعاطف مع بني عبيد، ومن هؤلاء أبو القاسم بن خلف بن أبي القاسم الأسدي المعروف بالبرادعي، حيث لم تحل له رئاسة في القيروان رغم أنّه كان من حفّاظ المذهب المالكي المؤلفين فيه، وكان مبغضا عند أصحابه بسبب صحبة سلاطين الشيعة، ويقال: "إنّ الفقهاء أفتوا برفض كتبه وترك قراءتها لأنّه وجد بخطّ يده في ذكر بعض العبيديين، أو أنّه ألف كتابا في تصحيح نسبهم وأنّهم كانت تأتيهم إمامة" (31).
وفضلّ بعض أهل العلم القيروانيين التشيّع طمعا في المناصب وطلبا للدنيا، فأبو جعفر بن خيرون ألّف في نسب عبيد الله، فرشّحه للقضاء ، ولكنّ القاضي محمد بن عمر المرودي سعى بابن خيرون هذا حتى قتل (32)، وأمّا عبد الملك بن محمد الضبي فتشيّع لحبّه المال، وكانت خطّة كتابة الوثائق تكفل ذلك، والشيعة لا يمنحونها إلا لمن تشيّع، فنالها الضبي وصار ثريا بما التزمه من أخذ الدراهم في كتب الوثائق (33)، ونال علي بن المنصور منصب القضاء بعد تشيّعه هو الآخر (34).
إنّ سياسة الاضطهاد التي اتبعها الفاطميون في إفريقية وبـلاد المغـرب لم تكن ضد السنة المالكية وحـدهم، بل شملت جميع المـذاهب الأخرى، لاسيما الخوارج الذين من أخصّ صفاتهم الخروج على الحكـام، فهم لا يحتاجون إلى فتاوى كثيرة وتفكير عميق ليفعلوا ذلك، وعلى النقيض منهم أهـل السنة والجماعة الذين يضيّقون هذا الباب كثيرا، لذلك فإنّ الخوارج بعد أن استجمعوا قواهم ونظّموا أنفسهم لم يتأخروا في إعـلان التمرّد ضد الـدولة الفاطمية مستغلين وفاة عبيد الله الشيعي، وعرفت ثورتهم هذه بثورة صاحب الحمار أبي يزيد مخلد بن كيداد الخـارجي الزناتي، و كـان يغلب عليه الزهد والتقشف ولـد ونشأ في قسطيلة (35)، وخالط النكارية وهم من الصفرية الخوارج، وسافر إلى تاهرت حيث كان معلما للصبيان فيها، خرج بناحية جبـل أوراس وتلقب بشيخ المؤمنين، وقاتله عساكر القائم بأمر الله العبيدي (36) صاحب المغرب، وعظم أمره ثم زحف على رقـادة فامتلكها ثم خضعت له القيـروان سنة 333هـ وحاصر الخليفة العبيدي في المهدية (37) وبعدها بدأت هزائمه تتوالى بانتقاض بعض البربر عليه، فرجع إلى القـيروان سنة 334هـ وغنم أهل المهدية معسكره..
وتوالت المعارك، ومات القائم فتولى ابنه المنصور (38) فأخفى موت أبـيه وخـرج من المهدية فالتقى بمخلد في سوسة (39)، فكانت الحرب سجالا، ثم انهزم مخلد وقتل من أصحابه عدد كبير، وتعقبه المنصور إلى أن قبض عليه حيـّا بعد أن أثخنته الجـراح، فجعل في قفص من حديد، وحمل إلى المهدية، ثم قتله الخليفة وصلبه وأمر بسلخه سنة 336هـ (40)..
ويمكن القول: إنّ هذه الثورة الخارجية لم تعرف الدولة الفاطمية أخطر منها، حيث كادت تهدم أركانها وتقضي عليها.
وما يميّز هذه الثورة الخارجية عن غيرها من الثورات مشاركة علماء أهل السنة المالكية فيها، فقد رأى فقهاء القيروان وصلحاؤهم أنّ الخروج مع أبي يزيد متعيّن لكفر بني عبيد، ومنهم أبو إسحاق السبائي من فقهاء القيروان ومن أشدّ الناس بغضا للشيعة، فقد روي عنه أنّه كان إذا رقي أحدا يقرأ في رقيته الفاتحة والمعوذتين كلّ سورة سبع مرّات، ثمّ يقول في آخر رقيته: "ببغضي بني عبيد وذويه وحبّي في نبيّك وأصحابه وأهل بيته"، وكان يشير إلى أصحاب أبي يزيد ويقول: "هؤلاء من أهل القبلة، فإن ظفرنا بهم – أي بالشيعة العبيديين – لم ندخل تحت طاعة أبي يزيد، والله يسلّط عليه إماما عادلا يخرجه عنّا" (41)..
وحكى أبو عبد الله المالكي فيمن خرج معه أبو الفضل الممسي الذي كـان يقـول: "إنّ الخـوارج من أهل القبلة لا يزول عنهم اسم الإسلام ويورثون ويرثون، وبنو عبيد ليسوا كذلك لأنّهم مجوس زال عنهم اسم الإسلام، فلا يتوارث معهم ولا ينسب إليهم" (42)، وربيع بن سليمان القطان الذي جعل على نفسه أن لا يشبع من طعام حتى يقطع الله دولة بني عبيد، وعندما عوتب في خروجه
قال: "كيف لا أخرج وقد سمعت الكفـر بأذني، فمن ذلك أني حضرت يوما إشهـادا فيه جمع كثير أهل سنة ومشارقة، وكان بالقرب منّي أبو قضاعة الداعي، فأتى إليه رجل مشرقي من أعظم المشارقة، فقام إليه رجل منهم وقال له: إلى ها هنا يا سيدي ارتفع إلى جانب رسـول الله، يعني أبا قضـاعة، فكيف يسعني أن أتـرك القيـام عليهم" (43)..
وأبو العرب بن تميم الذي حسم الأمر عندما تناظر الناس حول شرعية الخروج،
فقال لهم: "اسكتوا"، فسكت النـاس
فقـال: "حدثني عيسى بن مسكين عن محمد بن عبد الله يرفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم أنّه قال: "يكون في آخـر الزمان قوم يسمون الـرافضة، فإن أدركتموهم فاقتلوهم فإنهم كفّار" (44)، فلما تمّ الحديث كبّر الناس وارتفعت أصواتهم ثمّ خرجوا (45) وحتى أصحاب الأعذار أرادوا المشاركة في القتال ولو بشكل رمـزي، فأبو ميسرة الضرير مشى شاهرا السلاح في القيروان (46) ثمّ اجتمعوا وركبـوا بالسلاح التام والبنود والطبول، وأتوا حتى ركّزوا بنـودهم قبالة الجامع وكانت سبعة بنود، وحضرت صلاة الجمعة فخطب خطيبهم أحمد بن أبي الوليـد خطبة بليغة، وحرّض الناس على الجهاد وسبّ بني عبيد، وأعلم الناس بالخروج من غدهم، فخرج الناس مع أبي يزيد لجهادهم، وحصروهم في المهدية، فلما رأى أبو يزيد ذلك ولم يشكّ في غلبته أظهر ما أكنّه من الخارجية، فقال لأصحابه: "إذا لقيتم القـوم فانكشفوا عن علمـاء القـيروان حتى يتمكن أعداؤهم منهم"، فقتلـوا منهم من أراد الله سعـادته ورزقه الشهـادة، فمنهم الممسي وربيع القطـان في خمسة و ثلاثين من الفقهـاء والصـالحين، وذلك في رجب سنـة 333 هـ، ففارق الناس أبا يزيد، وأظهروا السنة وحلّقوا بالجامع (47) وقالوا: "قتل أوليـاء الله شهداء، واشتـدّ بغضهم له" (48)..
وكانت هذه إحدى أهم الأسباب التي أدّت إلى هزيمة أبي يزيد وقتله، وكما هو متوقع لم يستتبع هذه الثورة إلا المزيد من العداء بين الفاطميين والعلماء.
لقد بذل علماء المالكية السنة جهودا كبيرة للدفاع عن عقيدتهم أمام المدّ الشيعي الإسماعيلي الذي اجتاح المنطقة، ووقفوا له بالمرصاد وستستمر مقاومتهم للشيعة الفاطميين ما بقيت رايتهم تعلو في سماء بلاد المغرب وإفريقية.
ولمّا اعتلى الحاكم (49) عرش الدولة الفاطمية أظهر من الكفر والزندقة ما لم يظهره غيره، فكان ممّا أحدث أن بنى دارا وجعل لها أبوابا وأطباقا وجعل فيها قيودا وأغلالا وسمّاها جهنّم، فمن جنى جناية عنده قال: "أدخلوه جهنّم"، وأمر أن يكتب في الجوامع بسبّ الصحابة، وأرسل إلى المدينة من ينبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما سئل الفقيه القـيرواني الزاهد ابن عذرة عن خطباء بني عبيـد، وقيل له: "إنّهم يثنون عليهم"، قال: "أليس يقولون اللهم صلّ على عبـدك الحاكم وورّثه الأرض"، قـالوا: "بلى"، قـال: "أرأيتم لـو أنّ خطيبا خطب فأثـنى على الله ثمّ قـال أبو جهل في الجنة، أيكون كافرا"، قالوا: "نعم"، قـال: "فالحاكم شرّ من أبي جهل"..
وسئل الداودي عن المسألة نفسها فأجاب بمثل ذلك تقريبا، وأضاف أنّ من صلّى الجمعة وراءه أعادها ظهرا أربعا، ثمّ لا يقيم إذا أمكنه الخروج ولا عذر له بكثرة عياله ولا غيره (50).
وكان العبيديون قبل رحيلهم إلى المشرق باتجاه مصر سنة 361 هـ عينوا على المغرب بلكين بن زيري (51) عاملا لهم على البلاد، وتوارث أبناؤه الحكم، وفي عهد المعز بن باديس (52) أظهر السنة ونبذ البدعة، فجهر الناس بمعتقداتهم، وأقاموا شعائرهم الدينية بحرّية كبيرة، ثمّ قام المعز بتحريض من علماء السنة بقطع صلاته السياسية بالفاطميين العبيديين الرافضة، وأعلن مبايعته للخليفة العباسي القائم في بغداد سنة 435 هـ (53) وقام العبيديون بعد ذلك بإرسال أعراب بني هلال و بني سليم إلى بلاد المغرب، فأحدثوا فيها خرابا كبيرا كما هو مذكور في مظّانه..
وهذا العرض الموجز ليس إلا قطرة في بحر جرائم العبيديين ضد أجدادنا من أهل السنة، فأي حضارة أقامها هؤلاء في بلادنا التي كانوا ينظرون إليها أنّها مجرّد منطقة عبور ونقطة انطلاق لتحقيق هدفهم الأكبر المتمثل في غزو المشرق والقضاء على الخلافـة العباسية السنية في بغداد، ومن ثمّ الإنفراد بحكم العالم الإسلامي؟.
ولنـدع الماضي ومآسيه ولننظر في حاضرنا، فما أشبه اليوم بالبارحة، فشيعة الأمس هم شيعة اليوم، والعالم بأسره يشهد ما يحدث لأهل السنة في العراق من تقتيل وتهجير وتشريد على يد عصابات القتل الرافضية التي تمـدّها دولة إيران الشيعية بكل ما استطاعت من دعم مـادي ومعنوي، ألم يملأ الشيعة الروافض العالم شعارات عن الشيطان الأكبر الذي يجب جهاده، فأين أنتم وقد غزا مدنكم "المقدسة النجف وكربلاء".
وأخيرا أقول: أين مالكية اليوم من مالكية الأمس؟، أليس فيكم رجل رشيد؟، أليس فيكم من يقتدي بابن الـبردون وابن هذيل وابن أبي زيـد القيرواني وأبو الحسن علي بن خلـدون ومحـرز بن خلف العـابد والداودي وابن المنمّر الطرابلسي وأبو عمران الفاسي وغيرهم، فينكر على الذين يحاولون تبييض تاريخ الدولة الفاطمية في بلادنا، ذلك التاريخ الذي كانت بدايته قتلا للمسلمين وإماتة للدين وإعلاء للبدعة ونهايته وبالا على الأمة، فقد كانوا عـونا للصليبيين الذين دخلـوا بيت المقدس، وارتكبوا أفظع المجازر في حق المسلمين، ومن لطف قدر الله عزّ و جلّ أن تمكنّ الناصر صلاح الدين الأيوبي من القضاء على الدولة الفاطمية ففتح الله على يديه بيت المقدس.
ــــــــــــــــــــــــــــ